19/11/2023 - 16:34

صدر حديثًا | من عكا إلى تكساس: مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي

هذه المذكرات تندرج ضمن نمط كتابة تواريخ العائلات، الذي نشط فيه مثقفو العائلات ومؤرخوها، كعبد القادر العظم وعيسى إسكندر المعلوف وغيرهما، وهي اهتمامات ظهرت مع تعمّق الإحساس بالهوية السورية العربية...

صدر حديثًا | من عكا إلى تكساس: مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي

غلاف الكتاب

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الكتاب الضخم من عكا إلى تكساس: مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي (1861-1925)، بتحقيق وتهميش الباحث تيسير خلف، ويحتوي على مقدمة يليها عشرون فصلًا وخمسة عشر ملحقًا تتمحور جميعها حول مذكرات مسيحي فلسطيني مخضرم، عايش الفترتين السلطانية والتنظيمات، ويتناول فيها نُبذًا من حياة عائلته وحياته الشخصية ونجاحاته وهجرته، وظروف السلطنة خلال الفترة الانتقالية وحياة المسيحيين فيها، متطرقًا إلى هجرته وظروفها، وإلى هموم العيش في أميركا، وإلى بعض الحديث في السياسة، والجمعيات، والقوانين الانتقالية، والعلاقات العربية - العثمانية. يقع الكتاب في 248 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

رحلة المحقق مع مخطوط المذكرات

تعرَّف محقق كتابنا وواضع حواشيه، تيسير خلف، إلى مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي أثناء بحثه عن مصادر لروايته عصافير داروين، أما المؤرخ الأردني رؤوف أبو جابر، فكان نشر صورة عن هذه المذكرات في كتابه آل الصيقلي: انتماء أصيل في شمال فلسطين، وذكر أنه اعتمد عليها في الكثير من تفاصيل كتابه، متبنّيًا فرضية الأصل الروسي لعائلة سيقلي، وهي باعتقاد خلف غير صحيحة، مبيِّنًا ذلك في دراسة مخطوط هذه المذكرات، الذي أشار إلى نقل قسطنطين هذه المعلومة عن حبيب بن خليل سيقلي أحد أقربائه.

حصل خلف على صورة أكثر وضوحًا للمذكرات من أبو جابر، الذي كان حصل عليها من صديقه ميشيل سليمان سيقلي، فوجد خلف فيها حين بدأ تحقيقها علميًّا معلومات بالغة الأهمية عن أحوال الجليل الفلسطيني وولاية سوريا العثمانية، نقلها بَنان شخص عالي الثقافة درس الطب وساهم في العمل الأهلي الجمعياتي. وقد روى قسطنطين في مذكراته قصة أول فرقة مسرحية في فلسطين، وعدد المسرحيات التي مثلتها وأسماءها بين عامَي 1880 و1883، ومعلومات مهمة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتفاصيل مسهبة من النادر إيجادها في مذكرات مهاجر عربي من ذلك الزمن.

كتب قسطنطين مذكراته بين عامي 1926 و1928 بلغة عربية فصيحة تنتمي إلى طرائق الإنشاء السائدة وقتذاك، ولذلك يمتلئ نصها بصياغات تركيبية وإملائية لم تعد مستخدمة في لغتنا المعاصرة، فحافظ المحقق على صياغات قسطنطين إلى حد بعيد، كاستعماله لغة التسهيل عوضَ الهَمز (الرياسة، الرايق، فايقة ... إلخ)، وبعض الألفاظ العامية، مثل: عوينات، الفاردة، شختورة، وعلى كلمات بصبغتها التاريخية، مثل: غرش، فرنساوية وغيرهما، شارحًا بعضها، لا سيّما العثمانية منها، ومصوّبًا بعض الأخطاء الإملائية والنحوية الناتجة من سرعة الكتابة، كما أضاف بعض أدوات الربط الساقطة للتوضيح حين بدت الجمل مبتورة، واضعًا كل إضافةٍ بين معقوفتين، ومشيرًا إلى ما حذفه مما وجد أن لا ضرورة له بنقاط، محافظًا على النص كما هو في ما دون ذلك، ومستعملًا طرائق الإنشاء والتعبير السائدة في زمنه، ومنها لغة الحكاية المعتمدة لدى قسطنطين.

كانت مصادر قسطنطين في كتابة مذكراته ذاكرته وما سمعه من والده، ولذلك لم يكن قادرًا على تعيين بعض التواريخ التي لم تسعفه بها ذاكرته، فاستدرك المحقق بعض هذا، متحقِّقًا من بعض ما شكك قسطنطين في حدوثه وفي نسبته وتاريخه استنادًا إلى وثائق وكتب وصحف موثوقة، وحقّق في الهوامش كثيرًا من الأماكن والشخصيات التاريخية التي وردت في المخطوط، ثم أتبَع المذكرات بنوعين من الملاحق: الأول للتقارير ومقالات الصحف حينها، والثاني لوثائق عثمانية بنسختها الأصلية تتبَعُها ترجمات للمحقق.

وقد لاحظ خلف أن قسطنطين لم يعتمد التسلسل الزمني في كتابة مذكراته، بل قسَّمها أجزاءً ذات أرقام تسلسلية وتحت معظمها عنوانٌ رئيس ثم عناوين فرعية، فحوَّلها إلى فصول بعنوان رئيس لكل منها، ما عدا الفصل الثاني، الذي أضاف إليه عنوانًا كان قسطنطين قد ترك ذكره.

الجليل الفلسطيني أواخر العصر العثماني

حازت عائلة قسطنطين سيقلي المسيحية ملكيات متوسطةً وبعض الثروة إثر تطبيق قانون الأراضي العثماني خلال مرحلة التنظيمات العثمانية، وإصدار السلطان العثماني "خط شريف گلخانه" في عام 1839 و"خط همايوني" في عام 1856، اللذين كان مما تضمّناه المساواة بين الرعايا، مسلمين ومسيحيين، وصيانة حياتهم وممتلكاتهم، وتصحيح طريقة توزيع الضرائب وجبايتها، وتحديد أمد الجندية وإجراء المحاكمات علنًا. وبعد هجرة والده أسعد سيقلي من الناصرة إلى حيفا بعد خروج قوات إبراهيم باشا نهائيًّا من سوريا عام 1841، عمل في مينائها بتجارة الحبوب، قبل أن ينتقل بعد عام 1865 إلى عكا، التي كان مرفؤها في ذلك الوقت منفذًا تجاريًّا لبلاد حوران وما جاورها في الداخل، فتوسعت تجارته، وراكم رأسَ مالٍ معتبَرًا، واشترى أراضيَ واسعة، منها إحدى دور والي عكا السابق عبد الله باشا، كما أصبح ملتزمًا لتجارة التجزئة، ولضرائب الأسماك المفروضة على الصيادين، فأصبح من أصحاب الشأن في الجليل ومن أبرز الوجوه الأرثوذكسية فيها.

بعد موت أسعد سرعان ما تدهورت القدرة المالية للعائلة وبدأ نجمها في الأفول، ليس بسبب موت الوالد فحسب، بل لعوامل أخرى ذكرها قسطنطين، منها تراجع مكانة عكا التجارية بسبب ربط خط حديد حيفا بجنين والشام، الأمر الذي قلّص صادرات عكا وواردتها وجعل مكانة حيفا تعلو على مكانتها، لعوامل ثلاثة ذكرتها الباحثة مي إبراهيم صيقلي في كتابها حيفا العربية، وهي: مؤسسات التعليم المسيحية، والاستيطان المديني الألماني، ومد سكة حديد الحجاز، ولعل هناك عامل رابع لم تذكره صيقلي، وهو عدم حفاظ الأولاد على مكتسبات الوالد وتنميتها، وخصوصًا الشقيق الأكبر، الذي استأثر بثروة الوالد ثم بذّرها.

البحث عن حماية

ترافق صعود عائلة أسعد سيقلي وأفولها مع حكم السلطانَين عبد العزيز وعبد الحميد الثاني، وأسوة بالأسر المسيحية واليهودية، بحثت مستفيدةً من نظام الامتيازات عن حماية لدى الإمبراطورية الروسية التي طرحت نفسها حاميةً للأرثوذكس منذ معاهدة كوجك قينارجه (1774)، في حين حمى الإنكليز الدروز، والفرنسيون الموارنة، ولعل هذا ما تسبّب في ظهور إشاعة الأصل الروسي للعائلة وهجرة جدها الأكبر جرمانوس من روسيا حاجًّا إلى الأراضي المقدسة في عام 1634 وحزنًا على وفاة زوجته كاترينا، في حين يدحض هذه الروايةَ عدمُ وجود قبر لجرمانوس المدَّعى أولًا، وأن حركة الحج الروسية الجماعية لم تبدأ إلا في القرن التاسع عشر، وكذلك ورود ذكر الأصل الحوراني لهذه الأسرة لدى كثير من مؤرخي تلك المرحلة، وقرابتها مع عائلات أرثوذكسية في دمشق وبيروت وجبل لبنان، ويؤيد هذا الكلام ما ورد في المذكرات نفسها من استضافة "ابن عم" للوالد يقطن في بيروت إياه عند مرضه. أما العامل الأخير وليس الآخِر، وقوف قسطنطين نفسه في حياته بقوةٍ ضد إتباع الأرثوذكس المهاجرين إلى أميركا لبطريركية موسكو، لأنه لم يكن يؤمن بأصله الروسي.

ذهنية فلاحية

تدل المذكرات على المنشأ الفلاحي لعائلة سيقلي، فتذكر علاقة أفرادها الطيبة أثناء صعودها المالي وبعده مع مزارعي أراضيهم، ما يدل على بعدهم عن ممارسة تقاليد إقطاعية كالتي تشهدها الأرياف المصرية والحلبية على سبيل المثال، فالمذكرات تحدّثنا عن علاقة أشبه بالعائلية بين والد قسطنطين وعمه صالح وبين المزارعين، ومشاركتهم المناسبات الاجتماعية لكلا الطرفين، وتولّي قسطنطين نفسه قضايا لفلاحي قرى ناحيته حين أصبح محاميًا ضد فؤاد سعد، أحد ملّاكي حيفا الكبار ونخبها، إضافة إلى اتصافهم بالتعصب للعائلة ورابطة الدم والقرابة، والتعاضد الأسري، والمبالغة في إظهار الحزم، والكرم الحاتمي، وكلها صفات تدل على الأصل الفلاحي الذي نتحدث عنه.

بدايات العمل الثقافي والأهلي

تتطرق المذكرات إلى اندماج أبناء العائلة المتلقّين التعليم العالي في البيروقراطية العثمانية بعد سَنّ قانون الولايات العثماني (1864)، مترجمين في مركز الولاية والمتصرفيات والقنصليات، أو أعضاء في هياكل الدولة والمتصرفيات والأقضية الإدارية، أو مساهمين في تنفيذ توجيهات مدحت باشا بتأسيس العمل الجمعياتي، إذ أسّس راجي سيقلي (أخو قسطنطين) أول جمعية ثقافية في فلسطين باسم "الجمعية الأدبية" (1880)، ومن رحمها وُلدت الفرقة المسرحية الأولى في فلسطين التي كان قسطنطين بطلَها ونجمَها الأول.

اللافت أن "الجمعية الأدبية" التي يشي اسمها بالبعد عن الهوية الطائفية سُميت بعد عام واحد من انطلاقتها باسم طائفي هو "الجمعية الخيرية للروم الأرثوذكس"، وفي تغيير ثالث إلى "جمعية إغاثة المسكين" النسوية.

كان طموح راجي سيقلي ومثقفين كبار كثيرين أمثاله، كما ورد في المذكرات، أكبر من واقع مدنهم، وبحجم ولاية سوريا كلها، وليس أدل على ذلك من مشروع راجي الكبير بتأسيس فرقة مسرحية كبرى تمثّل قصص أبطال العرب في ميادين خيل، وملاعب شاسعة، يشارك فيها مئات الفرسان من الفلاحين والبدو، ويصنع إكسسواراتها حرفيون من مدينة دمشق، وهي التجربة اللافتة التي حظيت برعاية السلطان عبد الحميد شخصيًّا، حتى نالت اهتمام الجمهور الأميركي، الذي استقبل الفريق الفلسطيني الضخم في شيكاغو في عام 1893.

لم تتوقف طموحات راجي بعد عودته من أميركا في عام 1894 عند ذلك، فحلم بتأسيس مجلة عربية ساخرة متخصصة في فن الكاريكاتير، لكنه لم يحقق حلمه إلا في القاهرة مطلع القرن العشرين. وأعلن راجي ترشحه لمجلس المبعوثان في عام 1909 لتمثيل متصرفية عكا، لكنه خسر المنافسة أمام الشيخ أسعد الشقيري.

ظلال فتنة 1860

وتحضر في المذكرات ظلال فتنة عام 1860 المؤسفة من خلال حارة النصارى المنفتحة على أفقها الطائفي المنغلقة في وجه محيطها الديني المختلف، وأيضًا من خلال ذكريات صاحب المذكرات عن والدته حين كانت تقصّ عليه أخبار التهديدات التي كانت توجَّه إلى حارة النصارى في حيفا من الجوار الطائفي المختلف الذي كان يتحفز للانقضاض عليها واقتسام أسلابها. كانت الدول الأوروبية في العقل الباطن لوالدة قسطنطين المنقذَ الوحيد من تلك التهديدات، في حين أن مَن منع الاعتداءات على حارات النصارى كان في الحقيقة شيخًا بدويًّا مسلمًا يُدعى عقيلة الحاسي.

ومع تجدد الشائعات عن عزم المشاركين في الحركة الارتجاعية ضد الدستور في عام 1909 على قتل مسيحيي عكا، هاجر صاحب المذكرات إلى الولايات المتحدة.

هوية سورية عربية

يُعرّف قسطنطين نفسه في مذكراته طوال الوقت بأنه سوري ومتجذّر في الثقافة العربية، سواء خلال حياته في سوريا وبيروت أو في الولايات المتحدة. ويظهر المحتوى الثقافي العميق لهويته السورية جليًّا في استحضاره أشعار العرب وأمثالهم القديمة، واستشهاده بشخصيات معروفة في التراث العربي، وتمثُّله سِيَرَ أبطال العرب التقليديين، أمثال عنترة بن شداد، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي وغيرهم، متأثرًا بمجالس والده مع زوّاره وضيوفه، والحكواتي وقصصه عن أبطال العرب فيها. ويؤكد قسطنطين في المذكرات أن عكا والناصرة وحيفا وبقية مدن الجليل وقراها جزء من فلسطين، وأن فلسطين لا تتجاوز أفقًا هُوياتيًّا أوسع يضمّ بلاد الشام، ومن هنا تتبيّن أهمية هذه المذكرات وكونها أحد كتب السِّيَر النادرة لفلسطينيي القرن التاسع عشر قبل ظهور خطر الحركة الصهيونية وتعاظمها، وأظهرت تشكيل ثورة 1936 ثم نكبة 1948 بعدها عواملَ حاسمة في تبلور هوية فلسطينية ذات طابع مقاوم.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المذكرات تندرج ضمن نمط كتابة تواريخ العائلات، الذي نشط فيه مثقفو العائلات ومؤرخوها، كعبد القادر العظم وعيسى إسكندر المعلوف وغيرهما، وهي اهتمامات ظهرت مع تعمّق الإحساس بالهوية السورية العربية، في ردِّ فعل على فكرة الهوية التركية الطورانية التي أريد تعميمها على عرب الدولة العثمانية، إلّا أن ما يميز هذا المخطوط من غيره من كتب التواريخ العائلية هو زيادة الجانب المذكراتي فيه على ثلثي حجمه.

التعليقات